تونس- انقلاب قيس سعيد، دروس الثورة ومستقبل الديمقراطية

في خضم سلسلة من الأحداث والإجراءات التمهيدية التي تنبئ بتوتر سياسي بالغ وإخفاق ذريع في إدارة شؤون البلاد من قبل حكومة المشيشي وبرلمان الغنوشي، ومع صرخات مدوية من وزير الصحة محذراً من انهيار وشيك لمنظومة الصحة المتردية أصلاً في تونس، والتي سبقها تدهور حاد في قطاع الشغل وتهديد مباشر لحياة المواطنين التونسيين، في مشهد يشي بمحاولة مفتعلة لخلق حالة من الفشل الشامل وإرهاب الشعب، وفي ظل استغلال مشين لجائحة كورونا وإلزام الناس بالبقاء في منازلهم، اتخذ الرئيس قيس سعيد قرارات مفاجئة وصادمة بتجميد الحياة السياسية برمتها في تونس، وشمل ذلك تجميد عمل البرلمان والحكومة والقضاء، بل وتجاوز ذلك إلى انتزاع كافة السلطات وتركيزها في قبضته.
من الجدير بالذكر والملاحظة –حتى اللحظة الراهنة- أن الرئيس التونسي قد قام بتعطيل الحياة السياسية وشل حركة الدولة كلياً، دون أن يقدم في المقابل أية حلول أو بدائل إصلاحية، وهو ما يثير الشكوك حول نواياه الحقيقية تجاه الثورة والتحول الديمقراطي، ويدفع إلى الاعتقاد بأنه لا يمثل المصالح الوطنية للشعب التونسي، فضلاً عن موقفه الهزيل وإمكانية إيقاف هذا الانقلاب بصورة عاجلة، بل ومواجهته ومحاكمته على هذا الفعل.
لقد استندت قراراته المثيرة للجدل إلى الفصل 80 من الدستور، الذي قدم له تفسيراً خاصاً ومخالفاً لما أجمع عليه جميع خبراء الدستور والقانون التونسيين، معتصماً في قصره ومستعيناً بقوات الجيش، ومنعاً النواب من الوصول إلى مقر البرلمان، وحائلاً دون وصول أعضاء وموظفي الحكومة إلى مقار عملهم، ومبرراً قراراته بإنقاذ البلاد من خطر داهم، وعازماً على تصحيح الأوضاع المتردية، ومحاولاً تصوير الأمر على أنه مجرد أزمة دستورية تحتمل تفسيرات متعددة – في محاولة لكسب الوقت وتمرير انقلابه على إرادة الشعب – وإظهار نفسه في صورة المنقذ الذي يسعى جاهداً لإنقاذ السفينة التونسية من الغرق المحتوم.
لقد اتخذ الرئيس قيس سعيد خطوات متسارعة ومنظمة، وكأنها جزء من برنامج عمل مُعد مسبقاً، مزود بآلية خاصة للتمهيد وتهيئة البيئة السياسية في تونس، لاستقبال وتمرير هذه القرارات الانقلابية وتجميد الحياة السياسية، والتعدي الصارخ على التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس، والطموحات التي حملتها الثورة التونسية، وأعقب ذلك بفرض حظر التجوال وإغلاق مكتب قناة الجزيرة.
مما لا شك فيه أن ما حدث هو انقلاب مكتمل الأركان ومدعوم بقوة من الجيش والأمن، الذي قام بتطويق مبنى مجلس النواب ومقر الحكومة، ومنع أعضاء البرلمان المنتخبين وحكومة المشيشي من الوصول إلى مقار عملهم وممارسة واجباتهم الدستورية.
ومع استمرار الرئيس سعيد في ممارسة مهام إدارة البلاد، وغياب أي رد فعل شعبي واسع لرفض هذا الانقلاب ووقفه، يبدو أن المرحلة الأولى من الانقلاب قد نجحت بالفعل، وعلى الجميع الآن أن يترقبوا ما سيفعله الرئيس الذي بات يمتلك جميع السلطات في تونس.
الرئيس قيس سعيد
من الجدير بالذكر والملاحظة –حتى اللحظة الراهنة- أن الرئيس التونسي قد قام بتعطيل الحياة السياسية وشل حركة الدولة كلياً، دون أن يقدم في المقابل أية حلول أو بدائل إصلاحية، وهو ما يثير الشكوك حول نواياه الحقيقية تجاه الثورة والتحول الديمقراطي، ويدفع إلى الاعتقاد بأنه لا يمثل المصالح الوطنية للشعب التونسي، فضلاً عن موقفه الهزيل وإمكانية إيقاف هذا الانقلاب بصورة عاجلة، بل ومواجهته ومحاكمته على هذا الفعل.
لا ريب أننا أمام جملة من الدروس الهامة التي ينبغي على الشعوب التواقة إلى التحرر أن تستوعبها وتتعلم منها، وسأحاول أن ألخصها في النقاط التالية:
- التنظيمات الدينية العربية – وفي طليعتها جماعة الإخوان المسلمين – أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك فشلها الذريع على الصعيد السياسي، وعدم امتلاكها للكفاءة والقدرة على القيام بأدوار سياسية تتجاوز تلك التي اعتادت عليها على مدى ما يقارب 90 عاماً مضت من ممارسة الدور الوظيفي – وهو دور "الكومبارس" – في مسرحية الأنظمة الاستبدادية، من خلال المشاركة الشكلية في العملية السياسية لإضفاء الشرعية على تلك الأنظمة، مع التمسح بدور الضحية في مختلف المراحل والعقود. لا جدال في أن لها أدواراً دعوية وتربوية واجتماعية متميزة، إلا أنها غير مؤهلة تماماً لممارسة مهام سياسية، ويعزى ذلك إلى افتقارها للأهلية النفسية والعلمية والمهنية والخبرات السياسية اللازمة، مع إصرارها الشديد على إنكار ذلك، والتقدم بعشوائية تامة لتولي رئاسة وقيادة البلاد سياسياً، وإضاعة ثورات شعوبها، وإعادة تسليمها فريسة سهلة ومنقادة بين يدي مستبديها.
- ببساطة شديدة جداً، استطاع قيس سعيد أن يحدث انقساماً مجتمعياً عميقاً، من خلال إذكاء حالة العداء والكراهية تجاه الإسلاميين، وهو الأمر الذي أدى إلى عزوف الشعب التونسي عن التفاعل الإيجابي مع الأحداث والنزول إلى الشارع.
- الشعوب العربية، حتى هذه اللحظة، غير مهيأة للتحول الديمقراطي، وهذا ما تأكد مراراً وتكراراً بسبب غياب الوعي الاجتماعي والسياسي الكافي، كنتيجة لخضوعها لقرن كامل من الاستبداد وتزييف الحقائق وتغييب الوعي وغسيل الأدمغة الممنهج. فهي بحاجة ماسة إلى عملية إعادة وعي منظمة ودقيقة، تهدف إلى تطهير العقل العربي الجمعي مما علق به من تشوهات في التفكير، ومسلمات خاطئة، ومفاهيم مغلوطة، وتصورات غير صحيحة عن الدين ورسالته في الحياة، فضلاً عن غياب الثقافة المواكبة للعصر والمستشرفة للمستقبل.
- غياب الكتلة الوازنة من النخب السياسية والثقافية والإعلامية والدينية القوية والمؤهلة لمجابهة الاستبداد ودولته العميقة والتغلب عليها والانتصار عليها.
- لا بد من تحديد وجهة واضحة وموحدة تتجه إليها جهود كافة الأحزاب والتنظيمات والقوى السياسية، وتتمثل في استكمال الثورة لتحقيق التحول الديمقراطي، وتعاون الجميع على تحقيق هذا الهدف النبيل، بعيداً عن الخلافات الأيديولوجية، والمصالح الضيقة، وتصفية الحسابات القديمة التي عملت عليها الدولة العميقة ونجحت في ذلك نجاحاً كبيراً.
- الثورة يجب أن تكون شاملة ومتكاملة، ولا مجال فيها لأنصاف الحلول، أو الاكتفاء بتجربة جزئية، وإلا تحولت إلى مغامرة غير محسوبة العواقب تقود إلى الهاوية. ولكي تكتمل أركان الثورة، لا بد من توافر عدة عناصر أساسية:
- عقيدة ثورية راسخة وموحدة تؤمن بالتحرر من الاستبداد والوصول إلى التحول الديمقراطي المنشود.
- نخبة ثقافية وسياسية ناضجة ومؤهلة لقيادة وإدارة الثورة حتى تحقيق أهدافها كاملة.
- قيادات وطنية بديلة قادرة على تولي مهام إدارة مفاصل السلطة في البلاد بكفاءة واقتدار، لتحل محل أركان الدولة العميقة.
- مشروع وطني بديل يتضمن الهوية الوطنية الجامعة والشاملة لكافة المكونات، ومشروع اقتصادي متكامل ومستدام.
- بديل عملي يخرج الدولة من أزمتها الراهنة تدريجياً، ومشروع سياسي واضح ومحدد المعالم داخلياً للتحول الديمقراطي والمشاركة الفعالة في استقرار المنطقة.
- قوة شعبية مؤقتة تتولى مهمة حراسة الثورة وحماية مكتسباتها حتى تحقق أهدافها النهائية، على أن تعود إلى مواقعها وأعمالها المهنية الاعتيادية بعد نجاح الثورة.
- لا يمكن تصور قيام ثورة حقيقية دون محاسبة رموز الاستبداد ولصوص أعمار ومصائر الشعب وثروات البلاد على مدى عقود متتالية، على الأقل محاسبة الصف الأول والثاني منهم، ليكون ذلك بمثابة رادع لبقية أركان الدولة العميقة، ويمنعهم من العودة مرة أخرى.
- الانقلابات يجب أن تحسم في ساعاتها الأولى ووفق خطط واستراتيجيات معدة مسبقاً، وهو الأمر الذي غفلت عنه حركة النهضة.
- فلم تبد النهضة أي ردود فعل حقيقية، واكتفت بما اعتادت عليه لعقود طويلة من ممارسة دور الضحية والمطالبة والمناشدة والتسول على الأبواب، متناسية أنها بهذا الضعف والخذلان والتيه إنما تدمر مصير الأمة التونسية، وتعيدها إلى الوراء عقوداً طويلة، وما ذلك إلا نتيجة للفهم الخاطئ للدين ودوره في بناء الشخصية الحضارية القادرة على تحمل تبعات التغيير والبناء، لا الشخصية الضعيفة القدرية الهزيلة التي لا تمثل الشخصية الحقيقية التي عرفناها في سير الصحابة والمسلمين الأوائل صانعي الحضارة وبناة الأمم.
- ما حدث يتحمله الجميع – النهضة وكل الأحزاب والقوى الوطنية والمجتمع المدني والشعب – فالكل شارك في صناعة هذا الفشل الذريع على مدار 10 سنوات متتالية، وساهموا في يأس الشعب من الإصلاح، ومنحوا الثورة المضادة فرصة سانحة للعودة إلى الحكم والسيطرة على البلاد والعباد مرة ثانية، ليس هذا هو الأمر الجوهري؛ ولكن الأهم الآن هو الاعتراف بالخطأ والانتقال إلى البحث الجاد عن كيفية مواجهة الجولة الثانية من هذا الانقلاب المشؤوم، ومحاولة إيقافه قبل فوات الأوان.
- تتجلى أهمية الشفافية في مصارحة الشعب بحقيقة الأوضاع، والتعاون المثمر في تحمل مسؤولية التحول الديمقراطي، والشروع في طريق التنمية والازدهار، مع التخفيف من سقف التطلعات، خاصة في المراحل الأولى التي تعقب قيام الثورة.
- لا بد من اطلاع الشعب على العقيدة العسكرية للجيش، وإشراك الشعب عبر مجلس النواب في اختيار قادة الجيش، حتى لا تتم سرقة الجيش في كل مرة لصالح المستبدين، وتتحول الدولة إلى دولة يحكمها الجيش بدلاً من جيش يحمي الدولة ويحافظ على مصالح الشعب.
السيناريوهات المتوقعة:
السيناريو الأول
استفاقة الأحزاب السياسية من غفلة الانقلاب، وزوال غشاوة الشماتة بالنهضة – المتصدعة من الداخل والضعيفة العاجزة سياسياً والمصرة على تصدر المشهد – والتخلي عن المصالح الحزبية الضيقة، والتحول إلى إدراك أهمية الحفاظ على الحرية والمسار الديمقراطي، ومكاسب الثورة، وإعلان وحدة الأحزاب في مواجهة الانقلاب، ودعوة الشعب إلى الخروج لوقف هذا الانقلاب ومحاسبة الرئيس، والدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء انتخابات رئاسية جديدة، يعقبها وضع خطة محددة المعالم واتخاذ إجراءات حاسمة لمواجهة وتفكيك الدولة العميقة.
السيناريو الثاني
تباطؤ حركة النهضة وبقية الأحزاب، واستمرار حالة التردد والتذبذب، والمناورة وكسب الوقت، وترك المجال للرئيس لاستكمال برنامجه الغامض – حتى الآن – ما سيؤدي إلى استكمال إجراءات الانقلاب، وعودة تونس إلى الحقبة التي سبقت عام 2011.
السيناريو الثالث
في ظل حالة التراجع والإحباط الراهنة، ستصبح البيئة مواتية لتقدم أصحاب خيار العنف، سواء من الإسلاميين المتطرفين، أو من غيرهم من شباب الثورة الذين فقدوا الأمل ولم يعد أمامهم أي خيار آخر، وعندها ستبدأ سلسلة من أعمال العنف والعنف المضاد، وستكون هذه فرصة ذهبية للنظام القائم لتأديب خصومه، وإرهاب الشعب، وإحكام قبضته على تونس بأكملها، في سيناريو مشابه لما حدث في الجزائر خلال العشرية السوداء.
تونس اليوم بأمس الحاجة إلى حكماء مغامرين ومبادرين يسعون إلى تحويل هذا الانقلاب إلى فرصة سانحة للتخلص منه ومن الدولة العميقة، وتطهير البلاد ووضعها على المسار الديمقراطي والتنموي الصحيح.